الجمعة، 31 مايو 2013

حضارة الاغريق . الخصائص المميزة



 الخصائص المميزة لحضارة الإغريق

أ.د. محمد حمدى إبراهيم
أستاذ الدراسات اليونانية واللاتينية المتفرغ
كلية الآداب – جامعة القاهرة

أولاً : جغرافية بلاد اليونان وأثرها فى تكوين الحضارة :

يتميز موقع بلاد اليونان الفريد بأنه يشغل منطقة تقع بين ثلاث قارات، هى آسيا وأوروبا، وأفريقيا، كما يتمز بأنه يطل على واحد من أقدم بحار العالم القديم وأهمها قاطبة (Mare Mediterraneum)، وأعنى به البحر المتوسط الذى شهد مولد أقدم حضارات العالم القديم. وهذا هو ما جعل بلاد اليونان نقطة تلاقٍ للحضارات القديمة ونلاقح بينهما، كما أنه هو الذى أكسب حضارتها ذلك الطابع الفريد المتميز الذى اشتهرت به. أما جغرافية بلاد اليونان فلا تقل فى التفرد عن موقعها العبقرى: فالبحر يتغلغل فى كل مكان فى بلاد اليونان، ويقسمها إلى يابس قارى وجزر يكاد لا يحصيها العد، كما أنه يفصل بين جزرها وبين أقاليمها التى تكاد جميعها تطل على البحر، بحيث لا يبعد أى مكان فيها عن شائ البحر مسافة تزيد على الأربعين ميلاً إلا فيما ندر. ولكن بقدر ما فصل البحر بين أجزاء بلاد اليونان، بقدر ما وحد بينها فى خواص مشتركة، لعلها تميز الحضارات البحرية بوجه عام وحضارة بلاد اليونان بوجه خاص. فلم يكن الإغريقى القديم يطبق الابتعاد عن البحر بحال من الأحوال، وكان عدما يحول أمر ما بينه وبين مرأى البحر كان يحس بكربٍ شديد وجزعٍ لا مثيل له؛ وليس أدل على ذلك من أن الآلاف العشرة من محاربى الإغريق الذين التحقوا بجيش الإمبراطور الفارسى قورش (Kyros) بوصفهم جنوداً مرتزقة، قد شعروا بحزن عميق وخوف مريع عندما ظلوا ردحاً طويلاً من الزمن، يواصلون مسيرتهم فى رحلة التصعيد (anabasis) داخل قارة آسيا دون أن يلمحوا خلالها بصيصاً للبحر. غير أنهم حينما وقعت أبصارهم على البحر بعد طول عناء، هتفوا جميعاً قائلين : "البحر! البحر ! Thalatta! Thalatt"، ثم ألقوا أنفسهم فى مياهه الرحبة والسعادة تغمرهم، وكأنهم يعانقون حبيبة بعد طول غياب.

ولم يكن البحر نسيجاً وحده فى منظومة بلاد اليونان الجغرافية، بل شاركته فى التأثير أيضاً الجبال والهضاب والتلال والروابى والسهول والوديان والأنهار والينابيع والبحيرات والغابات والأجمات وأشجار الزيتون، كما رسخت من تأثيره كذلك الألوان المتباينة، زرقة السماء وخضرة السهول والبحر اللازوردى والصخور المتباينة والزهور الملونة. وكانت كل هذه السميفونية من الألوان والأصوات، مثل تغريد البلابل وشدو القنابر والعنادل والكراكى، وخرير المياه أو هديرها فى الشلالات، كانت تمتع بصر اليونانى القديم وتشنف أذنيه، وتدفعه إلى ممارسة التأمل ساعاتٍ طويلة، مثلما كان يفعل الفيلسوف الأشهر سقراط أثناء مدة خدمته بالجيش؛ إذ ظل ذات مرة مستغرقاً فى تأمله شارداً مع خواطره وأفكاره، وهو ناظر إلى جمال الطبيعة الخلاب من حوله، منذ مشرق الشمس فى أحد الايام حتى مشرقها فى اليوم التالى دون أن يتناول طعاماً أو شراباً، ودون أن يربح بدنه أو حتى يهفو إلى النعاس.


ولقد قسمت الجبال بلاد اليونان إلى أقاليم منفصلة يصعب الاتصال بينها، بل إنها مزقتها إرباً بانتشارها فى كل مكان، وساعد هذا على وجود نظام عرف باسم دولة المدينة، أو المدينة -الدولة (Polis)، وكان نظاماً سياسياً واجتماعياً مميزاً للحضارة اليونانية القديمة. إذ أن العزلة القائمة بين هذه السهول الواقعة وسط الجبال قد أدت إلى إيجاد تجانس ملموس بين سكان كل إقليم، بحيث غدا كل إقليم متميزاً ومختلفاً عن ما سواه : فمدينة أثينا – على سبيل المثال- لها خصائص تجعلها مختلفة عن مدينة اسبرطة، ومدينة كورنثة ذات خصائص تجعلها متمايزة عن مدينة طيبة وهكذا. وكانت حضارة دولة المدينة تقوم فوق ركائز أساسية تُبنى فوقها العلاقات الاجتماعية والسياسية والدينية والثقافية، وكان من أهم هذه الركائز – كما سنرى فيما بعد – الحرية، والاستقلال الذاتى، والاكتفاء الاقتصادى. ورغم أن دولة المدينة كانت نظاماً يؤدى إلى الازدهار السريع، وإلى زيادة نبض الحياة والتسارع فى التطور، فقد كانت فى الوقت نفسه تُعجل بعمر الحضارة القائمة بين جدرانها لتصل إلى شيخوخة سريعة وذبولٍ محتوم. فلقد كانت حضارة دولة المدينة – كما يُقال – تحمل فى طياتها بذور فنائها، نظراً لأن أى توسع فى حدودها كان أمراً مقضياً عليه سلفاً بالإحباط والفشل، حيث إنه كان مقدراً له أن يصطدم بالجبال، التى تمثل عائقاً طبيعياً لا سبيل إلى إزالته ولا تجاوزه إلا ببذل جهد تنوء به الهمم، أو أن يُجابه بالبحر الذى كان بمثابة مانع مائى لا سبيل إلى اجتيازه إلا بشق الأنفس. ومع ذلك فقد كان الإغريق القدامى لا يعرفون المستحيل، فشرعوا فى اجتياز هذه الموانع بدأب وهمة لا تعرف الكلل أو التقاعس.

ثانياً : بلاد اليونان نقطة التقاءٍ بين حضارات العالم القديم :

استفادت بلاد اليونان فى تكوين حضارتها من جميع الحضارات المجاورة فى آسيا وأفريقيا، وكذا من حضارتى جزيرة كريت القريبة منها، وجزيرة قبرص التى لا تبعد عنها مسافة طويلة. إذ نقلت العلوم من مصر وبابل وآشور، ونقلت الفن والعمارة من مصر وفينيقيا وكريت، ونقلت الأديان والعقائد من مصر ومن آسيا الصغرى، ثم مزجت بين عناصر هذه الحضارات كافة، وصاغت منها حضارة خاصة بها ذات نتاجِ متجانس تحمل طابعاً فريداً غير مسبوق، لا هو نظرى مغرق فى التأمل؛ ولا هو عملى براجماتى ضيق؛ لا هو علمى بحت يتصف بالجفاف ويفتقر إلى المرونة ولا هو خيالى ينغمس فى تهويمات أو شطحات الأوهام؛ بل هو فى مجمله إنسانى فلسفى وفنى، يضرب بسهمٍ وافرٍ فى مختلف الاتجاهات باعتدال وتوزان مدهش، فهو لا ينحاز إلى اتجاه بعينه على حساب الاتجاهات الأخرى، ولا يعلى من شأن عنصر ويغفل أو يتجاهل بقية العناصر. والحق إن حضارة بلاد اليونان كانت أسبق من سواها إلى جعل الفلسفة منهاج فكر نظرى وأسلوب بحث واستقصاء لافت للنظر، بيد أنها تحاشت تقليد حكمة الشرق التى تُلخص جوهر الحياة فى صورة مقولات مقتضبة قد تصل أحياناً إلى حد الابتسار، وفضلت عليها النظريات الفلسفية التى تمثل موقف الإنسان إزاء الكون والوجود، والتى تبحث فى الوجود وأصل الكائنات، أو فى الماهية أو فى الطبيعة أو فى الأخلاق.


كذلك كان للفن النصيب الأوفر فى معطيات حضارة قدامى الإغريق، غير أن الفن الإغريقى لم يجنح إلى المثالية مثل الفن المصرى القديم، بل مال بشكل واضح إلى تصوير الواقع دون أن يتجاهل الجماليات البصرية أو الهندسية، وكان شأنه فى ذلك شأن ما أبدعه العقل الإغريقى فى مجال الأدب سواءً بسواء. أما العلوم فلم تكن تحظى من الإغريق فى بداية الأمر بالاهتمام الكافى، إذ كانوا مبهورين فى بداية حضارتهم بالعلم المصرى؛ حيث إن العلوم قنعت فى بواكير الحضارة الإغريقية بالانضواء تحت لواء الفلسفة، وكان كل فيلسوف له مبحث علمى إلى جانب المبحث النظرى. ولكن عندما أفلحت العلوم فى الانفلات من ربقة الفلسفة – إبان العصر الهيلّنستى – قيض لها الازدهار ونالت الاعجاب من مختلف الأقطار. غير أن الإغريق فى مجال الديانات لم يجدوا غضاضة فى الجمع بين عقائد شتى، وفدت إليهم أو نقلوها هم من الحضارات المجاورة لهم، وكان مما يلفت النظر أنهم انفردوا من بينها جميعاً بظاهرة تصوير آلهتهم وأربابهم على الصورة البشرية الخالصة، وهو ما يعرف بظاهرة "التجسيد على صورة البشر" (anthropomorphism).

ولقد تحدث الأستاذ هـ.د.ف.كيتّو فى كتابه المشهور "الإغريق" عن "العقل اليونانى"، وأحصى ميزاته التى تتمثل فى اللغة والنتاج الفكرى المتنوع، وبين لنا أن هناك ارتباطاً بين المزايا والخصائص الإغريقية العديدة وثقتهم فى المنطق وإحساسهم القوى بالشكل، وحبهم للسيميترية (= التوازن، التناسق)، وولعهم بالإبداع ونزعتهم إلى البناء، وكذا اتجاههم إلى الاعتماد على المنطق القبلى (a priori). كما بين الأستاذ كيتّو أن الإغريق يحظون بموهبة المضى قدماً والنفاذ خلال المظهر الخارجى للطبيعة، وصولاً إلى الحقيقة وإلى الوحدة القائمة تحت هذا المظهر، وأن هذا هو ما حدا بالشاعر التراجيدى آيْسخيلوس إلى عدم مسرحة أحداث الحرب أو إظهارها على خشبة المسرح فى مسرحية "الفرس : Persai"، بل استخدم بعض أحداث هذه الحرب لكى يُقدم من خلالها ما يعتقد أنه هو مغزى الحرب الحقيقى. وأوضح الأستاذ كيتّو أيضاً أن الفنان الإغريقى لا يسعى إلى تقديم صورة ممثلة لجميع تفاصيل الحياة، بل كان مرامه أن يعبر عن مفهوم واحد من مفاهيم الحياة، شريطة أن يكون شكل الإطار الذى يضم هذا الموضوع أكثر ما يكون منطقية وعقلانية. والملمح الثانى فى العقل الإغريقى هو حب التناسق (symmetria)، حيث إن لديهم دوماً الإحساس بالأنموذج وبالتوازن الذى يعلن عن نفسه بغير مواربة؛ وكان الإغريقى يعتقد أن العالم على اتساعه لابد أن يكون متناسقاً بدوره. فالإنسان جزء من الطبيعة وبذلك تكون الطبيعة التى هى مؤسسة على المنطق متناسقة بدورها، والشواهد التى تدل على تناسق الطبيعة قائمة ومتوافرة بلا نقصان: فهناك الظلمة والنور، والبرد والحرور وغيرها مما لا يتسع المقام لإحصائه. وتعد الرياضيات بحق أعظم خاصية مميزة بين الخصائص اليونانية قاطبة، فالإغريق يعتقدون أن الكون كل منطقى وأنه بسيط رغم ما يبدو من مظهره الخارجي، وبالتالى فالأرجح أنه متناسق. ولقد كان العقل اليونانى مستغرقاً فى البرهنة القائمة على القياس، بحيث يقفز عبر الهوات، حيث إنّ الطبيعة عبارة عن وحد واحدة، تضم العوالم الفيزيقية والأخلاقية والدينية جنباً إلى جنب فى كيانٍ واحد. ولقد كان أفلاطون دارساً شغوفاً للرياضيات، بدليل أنه دون على باب مدرسته المعروفة باسم الأكاديمية العبارة التالية : "mêdeis ageômtrêtos eisetô"، ومعناها : "لا يدخلن هنا من لا يعرف الهندسة". وكانت إحدى مقولاته الشهيرة : "إن الله يزاول الهندسة على الدوام". كذلك كان أفلاطون يفرق تفرقة صارمة بين "المعرفة" و"الرأى": فالمعرفة عنده ليست هى ما قيل للإنسان أن أُظهر له أو عُلم أو لُقن؛ بل هى فقط ما استطاع العثور عليه أو إيجاده لنفسه، من خلال البحث الدائب الذى يستمر طويلاً. كذلك فإنه يرى أن ما هو باقٍ أو دائمٍ، لا العابر، هو الذى يستحق أن يكون مادة للمعرفة، وأن ما هو كائن فقط، لا موضوعات الحس، هو الذى يصبح دائماً شيئاً مختلفاً. ودراسة الرياضيات تبعد العقل عن موضوعات الحس الغليظة، لأن الأحاسيس لا يمكن أن تظهر لنا سوى نسخٍ عابرةٍ وناقصة من الحقيقة. وأسمى الحقائق أو الأفكار هى "الخير".

هذه هى المعرفة التى حينما يحظى بها الإنسان فإنه لا يقترف جرمًا؛ إنها معرفة الكائن، معرفة الخير، ومعرفة الله افتراضياً. وإنها شئ أكثر ثراءً من معرفتنا العقلانية الصرفة، حيث إن الانفعال الأخلاقى وكذا العقلى يكمن فى قوته الدامغة، وحيث إن موضوعه هو الحقيقة التى تضم فى حناياها كل شئ.

ثالثاً : تاريخ بلاد اليونان لسياسى :

قطعت بلاد اليونان رحلة طويلة شاقة فى مجال السياسة، ذاقت فى بدايتها الأمريّن من الحكام المستبدين (despôtai) المنفردين بالسلطة. ففى بداية الحضارة اليونانية ساد نظام أوتوقراطى (autokratoria) مستبد، أُتيح لنا أن نطلع على طرفٍ من ملامحه الرئيسة فى ملحمة الإلياذة  (Ilias) للشاعر الأشهر هوميروس؛ وكان هذا النظام نظاماً مستبداً صارماً لا يسمح لصوتٍ أن يعلو، ولا يطيق لشكايةٍ أن تُعلن، ولا يتهاون مع أى تذمر أو تبرم، ويقمع كل تمرد أو يسحقه بقسوة لا نظير لها، مثلما فعل أوديسيوس وسائر قادة الإغريق مع ثرسيتيس، المحارب الذى سخط وتذمر فضرب حتى انزوى على نفسه باكياً معتذراً؛ ومثل ما فعله أجاممنون مع أخيليوس أشجع الأبطال الإغريق وأقواهم، فلم يشفع هذا له عند ملك الملوك أجامنون.

ثم انتقل المجتمع اليونانى بعد ذلك إلى حقبة ساد فيها نظام شبه اقطاعى، كانت السيادة فيه للأمراء والنبلاء، وكان الأفراد فيه أشباه عبيد يعملون فى خدمة سادتهم ويسامون سوء العذاب. ويمكننا أن نلمح طرفاً من ملامح هذا النظام السياسى فى قصيدة للشاعر التعليمى هيسيودوس تحمل عنوان "الأعمال والأيام : Erga kai Hêmerai". ثم من بعد ذلك انتقل المجتمع اليونانى إلى نظام جديد عُرف باسم "حكم الطغاة" (Tyrannoi)، وكان الإغريق يطلقون على الحاكم الذى وصل إلى مقعد الحكم دون شرعية تسانده وانفرد بالسلطة اسم (Ruler=Tyrannos)، وهى كلمة لم تكن تحمل فى نشأتها الأولى أى معنى للطغيان. ولكن حينما ارتكب معظم هؤلاء الحكام، الذين وصلوا إلى سدة الحكام بالعنف والقوة، فظائع كثيرة، ومالوا إلى العسف والظلم، ارتبطت هذه الكلمة بعد ذلك عندهم وعندنا حتى عصرنا الحاضر فى أذهان الناس بالطغيان.

وبحلول القرن الخامس ق.م. تمكن الإغريق من التوصل إلى نظام سياسى غير مسبوق عُرف باسم "الديمقراطية" (dêmokratia)، وهو نظام ميز معظم دويلاتهم قديماً وأكسبها ذلك الطابع المتفرد فى العالم القديم، إذ أنه كان نظاماً يقوم على ركائز ومبادئ من "حرية التعبير" (parrêsia)، ومن "الاستقلال الذاتى" (autonomia)، ومن "الحرية المكفولة للمواطن" (eleutheria)، ومن "الاكتفاء الذاتى" (autarkeia). وكانت هناك مؤسسات ترعى هذا النظام وتضمن مشاركة الجماهير فيه، وتكفل عدم الانفراد بالسلطة لأى طرف مهما كان، وهى مجلس البولى (Boulê)، أو مجلس الشورى، الذى يقابل الآن البرلمان، والجمعية العامة (Ekklêsia) التى كانت جلساتها متاحة ومكفولة لسائر  أفراد الشعب من المواطنين البالغين. وكان هذا هو النظام الديمقراطى الذى دأب فلاسفة الإغريق ومفكروهم على الافتخار به والمباهاة بامتلاكه، وعلى اعتباره علامة من علامات التحضر والرقى وسمو القدر والمنزلة، كان نظاماً يقف على طرفى نقيض من النظام "المورناخى" (monarchia) المستبد الذى كان سائداً فى ممالك العالم القديم وإمبراطورياته. غير أن هذا النظام الرائع – الذى لا يزال يمثل علامة فارقة فى أنظمة العالم الحديث حتى الآن – لم يلبث أن تحول بسبب عدم وجود الضمانات الكافية إلى نظام دهماوى أو ديماجوجى (dêmagôgia) فاسد، يرفع شعارات الديمقراطية ولكنه يفرغها من مضمونها تماماً، حتى غدا – كما يقول الفيلسوف أرسطو- أسوأ بمراحل من الطغيان. ومن أسف أن هذا النظام الديماجوجى كان سبباً – فى بدايته – فى إعدام فيلسوفٍ عظيم، شهدت له الأجيال المتعاقبة قديماً وحديثاً بالإخلاص والتجرد، هو سقراط، كما كان سبباً فى الزج بمدينة أثينا فى حروب أهلية عقيمة لا طائل من ورائها، أريقت فيها الدماء الزكية بلا ثمن، ودار الصراع فيها بين أثينا وعدد من شقيقاتها الدويلات اليونانية، تحت ستار شعارات زائفة ودعاوى براقة مضللة. وبعد انتهاء هذا النظام الذى قضى على ثمار الديمقراطية وبدد نعيمها، حدثت ردة إلى النظام "المورناخى" الاستبدادى على يد فيليبوس المقدونى، ثم صار بعدها سائداً فى شتى ممالك العالم القديم بعد رحيل الإسكندر الأكبر، طوال العصر الهيلّسنتى وما بعده.

رابعاً : الفكر اليونانى القديم : الفلسفة، العلوم، الأدب، الفن :

مما لاشك فيه أن الفلسفة كانت نتاجاً إغريقياً خالصاً فى طابعه، دون أن يفهم من كلا منا هذا أننا ننفى عن الحضارات الأقدم أو الأحدث من حضارة الإغريق، أنها كانت تحتوى فى نتاجها على فكر فلسفى ذى قيمة مؤكدة؛ غير أن الفلسفة اليونانية كانت الركيزة التى ارتكزت عليها حضارة الإغريق فى شتى مجالاتها. فلم تكن هذه الفلسفة حكراً على طبقةٍ أو صفوةٍ مختارةًٍ من أفراد الشعب، بل المدهش واللافت للنظر أنها غدت فى متناول معظم المواطنين. وكانت الفلسفة اليونانية فى مبدأ الأمر تقتفى خطى الفلسفات الشرقية بوجه عام، أى أنها كانت تبحث فى مادة الوجود أو خاصته الأولى، وتسعى للاهتداء إلى المادة الأولية المتجانسة التى خلق منها الكون قبل أن ينمو ويتطور، سواء كانت الماء أو التراب أو الأثير أو النار أو الذرة. غير أن هذه الفلسفة ما لبثت أن تحررت من هذا الطابع، ووجدت ضالتها المنشودة فى تلك التركيبة الجمعية الفريدة القائمة على "الدياليكتيكا" (dialektikê)، بمعنى توالد الأفكار من بعضها أو الجدل الفلسفى، وهى تركيبة تجمع بين الفكر النظرى والفكر التطبيقى فى آن، أو بين النظرية والتطبيق فى منهج واحد. وكانت نقطة الانطلاق فى هذا الصدد الفلسفة السقراطية التى تمكنت من نقل الفكر الفلسفى الإغريقى من البحث فى مظاهر الطبيعة إلى البحث فى السلوك الإنسانى، ولهذا قيل إن سقراط كان أول من أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض، بمعنى أنه حول وجهتها من دراسة المادة إلى دراسة الأخلاق.

أما العلوم، فقد كانت تأتى فى المرتبة الثانية من اهتمام الإغريق، حيث إنهم – كما سبق القول- نقلوا الرياضيات من مصر، ووفد فلاسفتهم إلى معابدها – ابتداءً من طاليس (Thalês) حتى أفلاطون (Platôn) – لكى ينهلوا من العلم المصرى ذى التاريخ العريق والتميز الواضح. ولقد استطاع فلاسفة بلاد اليونان أن يستوعبوا النظريات الرياضية، ابتداءً من فيثاغورث (Pythagoras) وانتهاءً بكل من أرخميديس (Archmêdês)، وإقليديس (Eukleidês)، وبابوس (Pappos)، والعالم السكندرى ديوفانطوس (Diophantos)، أول من استخدم الرموز الجبرية فى العالم القديم، وكان هو الذى مهد الطريق للعرب فجعلهم يؤسسون علم الجبر بوصفه علماً مستقلاً. وفى مجال الطب وعلم التشريح نجد نظريات ذات قيمة لافتة للنظر لكل من هيروفيلوس (Hêrphilos)، وإراسستراتوس (Erasistratos)، وجالينوس (Galênos)، وغيرهم من مشاهير الأطباء فى العالم القديم. وهناك أيضاً علماء بارزون فى الأدوية والعقاقير والفارماكولوجيا، مثل نيكاندروس (Nikandros)، وعلماء فى الجغرافيا مثل إراتوسثينيس (Eratosthenês)، وعلماء فى النبات مثل ثيوفراسطوس  (Theophrastos).

ولا يتسع المقام هنا للحديث بالتفصيل عن الأدب اليونانى القديم الذى يتصف بالتنوع ويتسم بسرعة التطور. ويتساءل الأستاذ ر.و.ليفنجستون فى كتاب "تراث الإغريق The Legacy of Greece، حيث إنه دون فيه بحثا بعنوان "الأدب Litterature"، يتساءل بقوله : ماذا أنجز الإغريق؟ وماهى إسهاماتهم؟ ويجيب بقوله : إنهم ابتكروا جميع الأجناس الأدبية التى نعرفها اليوم، ويكفى القول إن أسماء هذه الأجناس يونانية؛ كما أنهم وضعوا الخطوط التى سار عليها الأدب الأوروبى. ثم يمضى فيذكر أنه ليس هناك أدب عظيم بفضل مزاياه أو خصائصه وحدها، التى هى دائماً شئ أقل من الأدب ذاته، وإنما تقاس العظمة بقدر ما ينتشر الأدب ويمتد فى أرجاء العالم، ويصعد فى هذا الصدد إلى قمة سامقة. وليس هناك شخص بوسعه أن يفكر فى الأدب اليونانى بدون التفكير فى هذه المزايا، إذ أنها تحيا على شفاه المعجبين، وفيها وبداخلها يكمن بشكل أساسى إلهام الأدب اليونانى بوصفه ذخراً مقدساً. وهذه المزايا الأساسية هى : البساطة Simplicity، وإتقان الشكل Perfection of Form، والصدق Truth، والجمال Beauty؛ بيد أن الأدب اليونانى أكبر وأعظم بكثير من هذه المزايا الأربع. إن البساطة اليونانية تعيد إلى أذهاننا الاهتمامات الرئيسة للقلب الإنسانى، كما أن الصدق اليونانى بمثابة تحدٍ يدعونا إلى أن نرى العالم كما هو، ويدفعنا إلى تحاشى خواء الزخرف المجرد وزيف الريطوريقا وبطلان الوجدان، وإلى التيقن من نقصان مقدرة الكتاب الذين – بدلاً من رؤية الحياة بوصفها كلا واحداً مثل الإغريق – يتجاهلون جزءاً منها أو يركزون عليه وحده، حسبما تمليه عليهم مشاعرهم أو تعاطفهم. أما الجمال الإغريقى فهو تذكار لسمة من سمات الكون، عميت عنها عيون عصور متتالية من الفكر الإنسانى، وأما التقنية الفنية اليونانية فهى درس يحتذى فى "الشكل : Form"، وتذكِرة تذكرنا بمكان هذه التقنية فى الأدب.


إن الأدب اليونانى أدب متطور ومتنوع، فهناك الملاحم (ta Epê) التى نظمها هوميروس وتعتبر درة الأدب اليونانى القديم، وهناك القصائد التعليمية (ta didaktika) التى نبغ فى نظمها هيسيودوس، وهناك الأشعار الغنائية (ta Lyrika) التى تنوعت وتشعبت بحيث اشتملت على الشعر الذاتى الذى يعبر عن الأحاسيس الفردية، ومنه شعر المدح والهجاء والإبجرامة؛ والشعر الكورالى الذى تؤديه المجموعات؛ وكذا الشعر الذى يتغنى بالبطولات التى أحرزها المتسابقون  فى المسابقات الأوليمبية وغيرها. وتمثل الأشعار الغنائية حقبة بأسرها من نمو شخصية الفرد وقدرته على التعبير عن خلجات نفسه، وتمكنه من النقد والتحليل والنقاش وإبداء الرأى دون خوف ولا وجل. وهناك أيضاً الشعر الدرامى الذى يمثل ذروة تطور الأدب اليونانى القديم، لأن الدراما تعد أكمل مظهر للتعبير الذاتى والتعبير الموضوعى معاً داخل جنس أدبى واحد. وليس أدل على عظمة الأدب اليونانى القديم من أن العصر التالى له – وهو العصر الهيلّنستى – قد أعاد إحياء كل هذه الأجناس المذكورة من جديد فى ثوبٍ مختلفٍ وإطار متطور، بعد أن عجز عن مجاراتها واستحالت عليه منافستها أو ابتكار سواها إلا فيما ندر.

أما الفن الإغريقى، فقد سعى جاهداً إلى أن يختط لنفسه درباً غير مطروق يصبح وقفاً عليه، بعد أن نشأ فى البداية منضويا تحت إسار الفن المصرى القديم، الذى كان ينحو نحو إظهار العظمة عن طريق الضخامة فى الحجم، ونحو التعبير عن الخلود عن طريق الثبات فى الوقفة. غير أن الفن الإغريقى ما لبث أن عثر على ضالته المنشودة، واهتدى إلى طريقته الخاصة، فقلل من الضخامة فى الحجم إلى أن وصل إلى الحجم الواقعى، كما عزف عن الثبات فى الوقفة ومال إلى إظهار الحركة فى التماثيل التى تميزت بالدينامية الواضحة، وحازت بمواصفاتها هذه إعجاب القاصى والدانى، وجعلت الناس فى كافة العصور يرفعون الفن الإغريقى إلى مكان الصدارة فى نفوسهم. ومن الجدير بالذكر أن الفن اليونانى القديم لم يستنكف أن يحاكى الفنون الشرقية السابقة عليه، لكنه كان وهو يحاكيها يختط لنفسه درباً غير مطروق ومنهاجاً غير مسبوق، أفلح فى التوصل إليه ونجح فى جعله سمة دالة عليه.

خامساً : إغريق المهجر وإسهامهم فى تطور الحضارة الإغريقية :

كان فقر بلاد اليونان وقلة مواردها الطبيعية ومحدودية مصادرها الاقتصادية سبباً فى حركة الهجرة بغية الاستيطان، فتوجه الإغريق صوب الشرق وتجاه الغرب زرافاتٍ ووحداناً، واستوطنت طائفة منهم ساحل آسيا الصغرى والجزر المتاخمة له، وهو الساحل الذى يعرف بالساحل الإيونى.

وكان من المهاجرين الأوائل الإيونيون والأيوليون، كما هاجرت طوائف أخرى إلى الغرب واستوطنت جنوب إيطاليا وجزيرة صقلية، وكان معظمهم من الدوريين؛ وبلغ من تعاظم عددهم هناك أن أطلق الناس على جنوب إيطاليا باللغة اللاتينية اسم "بلاد اليونان العظمى" (Magna Graecia). ولقد لعب هؤلاء الإغريق القاطنون فى المهجر دوراً فائق الأهمية فى مجال تطوير الحياة اليونانية قديماً، وفى مدها بزادٍ وفيرٍ مما تعلموه أو مما حصلوا عليه فى الأقطار الجديدة التى استوطنوها – وكان منهم فلاسفة ذوى صيت ذائع، مثل "طاليس"، و"فيثاغورث"، و"زينون" مؤسس المذهب الرواقى؛ ومؤرخون نالوا القدح العلى فى فنهم ومهارتهم، مثل "هيرودوتوس" أبو التاريخ، وهيكاتيوس الملطى؛ وباحثون لغويون، مثل ديونيسيوس الهاليكارناسى، وعلماء مثل إقليديس.

ولقد كان هؤلاء الإغريق القاطنون فى الغربة (Xentia) السبب فى إيجاد هذا التجانس اللافت للنظر فى شتى عناصر الحضارة الإغريقية، التى تتجمع بأسرها فى بوتقةٍ واحدةٍ تخلو من التنافر  والنشاز، ولا سيادة فيها لعنصر بعينه على بقية العناصر. ولقد أعاد التاريخ نفسه فى العصور الحديثة فغدا اليونانيون القاطنون فى شتى أرجاء العالم يسهمون فى تعمير بلاد اليونان الحديثة وازدهارها، ابتداءً من حقبة نيلها استقلالها وتحررها من ربقة الاحتلال العثمانى حتى اليوم. فلقد شقوا الطريق وأقاموا المستشفيات والنوادى والمؤسسات التعليمية، وجاءوا بأموالهم التى كسبوها فى الخارج لكى يستثمروها فى وطنهم، وهم فخورون مغتبطون؛ ويكفى أن نذكر هنا أن أول استاد رياضى أقيمت فيه أول دورة للمسابقات الأوليمبية فى العصر الحديث عام 1896 أنشئ بتمويل من اليونانى المشهور أفيروف، وهو من المرمر الناصع ولا يزال يحمل اسمه إلى الآن.

سادساً : الحروب الفارسية والحروب البيلوبونيسية :

كان الصدام الذى وقع بين الفرس والإغريق على مدى أكثر من نصف قرن من الزمان صداماً مروعاً بين الشرق والغرب، ولم يكن مجرد حرب بين أمتين بقدر ما كان صراعًا بين نظامين سياسيين مختلفين وحضارتين متباينتين أشد التباين : إحداهما تقوم على النظام الإمبراطورى المستند إلى الحكم المستبد والانفراد بالسلطة، والأخرى على النظام الديمقراطى الذى يرتكز على المشاركة فى السلطة وعلى الحرية المكفولة للمواطنين بوصفهم نظراء متساويين. وكان من المتوقع استناداً إلى القوة العسكرية وحدها أن ينتهى هذا الصدام المروع بانتصار القوة الغاشمة على القوة الأصغر حجماً، أو بعبارة أخرى بفوز الماموث على الحمل الوديع؛ ولكن المفاجأة أسفرت عن فوز الفئة القليلة على الفئة الكثيرة. وبناءً على هذا فإن الفئة القليلة أرجعت السر فى تفوقها والفضل فى انتصارها إلى نظامها السياسى الديمقراطى، وإلى تمتع مواطنيها بالحرية والإرادة المستقلة. وشاهدنا على هذا العبارة التى جاءت على لسان الرسول الفارسى فى مسرحية الفرس (Persai) للكاتب المسرحى التراجيدى آيسخيلوس، رداً على سؤال الملكة الأم أتوسا، أم الملك الفارسى اجزركسيس، قائد الجيش، حينما سألته بقولها : "من هؤلاء الذين هزمونا؟ ومن هو مليكهم؟"؛ فأجاب الرسول بصوت تهتز له المشاعر : "سيدتى، إنهم قوم يباهون بأنه لا حاكم فردٍ يتولى أمورهم، وأن شئونهم شركة بينهم الكل يضرب فيها بسهم وافر." ولقد جاء انتصار الإسكندر الأكبر (Alexandros ho Megas) المقدونى، بعد ذلك بفترة من الزمن، بمثابة فوزٍ للإغريق على عددهم اللدود، وقضاءً مُبرماً على قوة الفرس وعلى ما بقى عندهم من آمالٍ طامعة فى التوسع والهيمنة.


ومن المثير المدهشة والعجب أن مدينة أثينا التى تزعمت مسيرة الحرية، وقادت الإغريق على بكرة أبيهم فى كفاحهم العادل ضد الفرس، تحولت – بعد أن استتب لها الأمر، وصارت على عدوها ظاهرة- إلى قوة إمبريالية تبغى التوسع وتنشد السيطرة على من هم دونها فى القوة والمنعة. وأدى هذا إلى نشوب حرب أهلية ضارية، كانت أثينا فيها على رأس عصبةٍ من الدويلات اليونانية ترتكز نظمها السياسية على النظام الديمقراطى، بينما تزعمت اسبرطة معسكراً آخر تعتمد دويلاته على النظام الأوطوقراطى الملكى. ودارت الحرب سجالاً بين الفريقين سنين عدداً بلغت ما يقرب من نصف قرن، وانتهت بإنهاك قوة العصبتين معاً وإضعافهما وتشتيت شملهما، الأمر الذى هيأ الفرصة لبزوغ قوة مقدونيا (Makêdonia) الصاعدة، وهى قوة وضعت نُصب عينيها أن تستولى على الدويلات اليونانية الواحدة إثر الأخرى، وأن تحتلها جميعاً وتحولها إلى دولة كبرى ذات طابع عالمى (cosmopolitan)، وأن تكون لها السيطرة والهيمنة على مقدرات هذه الدولة. وبفضل هذه السياسة استطاع الملك فيليبوس المقدونى من تكوين جيش جرار، نجح تحت قيادة ابنه العبقرى الفذ الإسكندر الأكبر فى غزو ممالك الشرق ببراعة وسرعة لفتت نظر القاصى والدانى. وكان الإسكندر الأكبر، حينما تحرك فى حملته المظفرة هذه، يضع فى حسبانه أن يحول بين الفرس وغزو بلاد اليونان مرة ثالثة – بعد معركتى ماراثون وسلاميس – وأن يقضى قضاءً مبرماً على إمبراطوريتهم بحيث لا تقوم لها بعدها قائمة.

سابعاً : حملة الإسكندر الأكبر على الشرق وفكرة العالمية :

كان الإسكندر الأكبر تلميذاً للفيلسوف الأشهر أرسطو (Aristotelês) الذى علمه – ضمن معلومات أخرى- أن الإغريق هم أفضل شعوب العالم آنذاك، لأنهم يستندون فى عزتهم وكرامتهم إلى نظام ديمقراطى يكفل لهم أن يكونوا أحراراً متساوين أمام القانون وأمام السلطات؛ ولأنهم يملكون قوت يومهم وبالتالى فهم ليسوا عبيداً عند الحاكم أو عند غيره، لأن "السيد" هو ذلك الذى لا يحتاج إلى أحد، أما "العبد" الخانع فهو ذلك المحتاج الذليل؛ ولأن "السيد" – كما قال سقراط فى محاورة "فايدروس" – هو "الحر" الذى يفكر طول الوقت فى أمور حياته وفيما ينفع الآخرين من بنى جلدته، أما "العبد" فهو الذى يستسلم للوسن والراحة ولايجهد نفسه بالتفكير من أجل سواه. ثم إن الإسكندر الأكبر تعلم من الريطوريقى الفذ إيسوقراطيس (Isokratês) "أن الهيلنية (Hellênismos) فكرٌ وليس مولداً"، وهو مبدأ يناهض العرقية والتمييز العنصرى والتعالى الممقوت، وهو مماثل للشعار الإسلامى القديم أن "لا فضل لعربى على أعجمى إلا بالتقوى". وانطلاقاً من هذه المبادئ الفكرية السامية – على الأقل من الناحية النظرية – صاغ الإسكندر الأكبر فلسفته السياسية، التى تنادى بأن العالم على اتساعه ينبغى أن يعتنق الفكر اليونانى القائم على جناحين من الحرية والديمقراطية، بصرف النظر عن المولد أو العرق، وبأن الحضارة بناءً على ذلك ينبغى أن تكون عالمية وليست قومية أو إقليمية، قوامها الثقافة اليونانية.

ولقد استطاع الإسكندر الأكبر، بعبقريته العسكرية الفذة وبفكره الطليعى الجسور، أن يغير خريطة العالم القديم، وأن ينجح فى نشر الثقافة اليونانية فى الشرق، وأن يربط بين الشرق والغرب عن طريق مزج الدم الهلّينى بالدم الفارسى، حينما تزوج أميرة فارسية تدعى روكسانا (Roxana)، وزوج عشرات من قواده أميرات فارسيات؛ وكانت هذه الخطوة الرائدة إيذانا بكسر حدة العداوة التاريخية بين الفرس والإغريق. وحينما وصل الإسكندر الأكبر إلى مصر وهزم جيش قمبيز (Kambysês) الفارسى، لم يستنكف أو يزوَرّْ عن التعبد لآلهة المصريين، مؤكداً وحدة الديانة بعد تأكيده وحدة الحضارة، وكان هذا دافعاً لأن يلقبه المصريون باسم "ابن آمون". وكان تأسيس الإسكندر لمدينة الإسكندرية إيذاناً بأنها سوف تصبح مركز الثقل الحضارى وقبلة الأنظار فى العالم القديم بعد أفول نجم مدينة أثينا، إذ قدر لمدينة الإسكندية – مع غيرها من مدن الشرق القديمة المزدهرة- أن تُوجد حضارة جديدة، هى الحضارة الهيلّنستية (Hellênistikê) التى نشأت lن امتزاج الحضارة الهيلّنية (Hellênikê) بالحضارات الشرقية امتزاجاً فريداً أتى بأينع الثمار.

وإذا كان الإسكندر الأكبر – رغم شهرته التى طبقت الآفاق، وعبقريته التى شهد بها القاصى والدانى – قد عجز عن تحقيق حلمه الطموح فى إقامة الدولة العالمية، وهو حلم ما زال عسير التحقق حتى الآن، فمما لاشك فيه أنه ضرب بسهمٍ وافرٍ فى أغرقة الشرق القديم لعدة قرون. ويكفى فى هذا الصدد أن نذكر أن مصر ظلت زهاء تسعة قرون من الزمان تستخدم اللغة اليونانية وتتعامل مع الثقافة اليونانية، حتى بعد الفتح الرومانى لها بما يزيد عن ستة قرون. كما استطاع الإسكندر الأكبر أن يؤسس عدداً كبيراً من المدن الإغريقية على غرار مدينة الإسكندرية، وكانت هذه المدن بمثابة واحات فى هذا الامتداد العمرانى الشرقى، أو بمثابة منارات فى هذا البحر الشاسع، تنشر الثقافة اليونانية ويعيش خلف أسوارها الإغريق والفرس والمصريون وشعوب الشرق كافة، فى تركيبة فريدة ساعدت فى زمن ما على بزوغ عالمية الثقافة، وعلى ازدهار حضارات العالم القديم والتلاقح بينها، فى امتزاج نادر المثال لم يتح له التكرر حتى الآن.

ثامنًا: انتشار المسيحية وذبول الحضارة الإغريقية :

غير أن الزخم المصاحب لهذا الازدهار اللافت للنظر لم يتح له الدوام طويلاً، إذ ان انتشار المسيحية فى القرون الثلاثة الأولى للميلاد، وكذا انتشار الإسلام ابتداءً من القرن السابع الميلادى، كان عاملاً حاسماً فى وضع حدٍ لرواج الفكر اليونانى الذى كان منطلقاً بغير حدود وفى حرية بغير قيود. إذ لم يعد هناك مجال – بعد انتشار هاتين الديانتين – لفكر الوثينيين من اليونان أو من الرومان، ولم يعد هناك تقبل لآلهتهم ولا لفلستهم أو ثقافاتهم، بل غدا الدين الجديد دستورا يهدى الناس إلى نوعٍ من الفكر الشمولى القطعى الذى لا يقبل معه شريكاً ولا يطيق منافساً. ففى ظل قيود العقيدة والإيمان لم يعد هناك مجال للدين وللفلسفة معاً، ولا مكان لحرية الفكر أو الفكر الحر، فلا مناص من أن يزيح أحدهما الآخر وأن يحل محله بالكامل. حقاً كان هناك نفر من المفكرين الذين نجحوا فى عقد مصالحة بين الفكر الدينى اليهودى أو المسيحى والفكر الوثنى، وبينوا أن هناك مصلحةً أو فائدةً فى التزاوج بينهما وإثراءً لكل منهما، غير أن هؤلاء كانوا ثلة قليلة العدد فى وسط بحر لجى تهب فيه العواصف والأنواء وتكتنفه الظلمات، الكل يلهث فيه بغية إرضاء العقيدة والإيمان، وينفض يديه من غبار العقلانية وحرية الفكر.

ولقد انتقلت أوروبا بأسرها – بعد انتشار المسيحية وإعلانها ديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية – إلى فترة طويلة من العصور الوسطى التى لقبت بالمظلمة رغم وجود قناديل مضيئة فيها، كانت ترسل نورها هنا وهنالك. ولكن العلم والفكر فى هذه العصور الراكدة أصبحا مقصورين على الصفوة المختارة والنخبة المتفيقهة من رجال الدين والمثقفين وهم قليلون، بينما كان الشعب على بكرة أبيه يعيش فى غياهب الجهل ويرفل فى الخرافات ويؤمن بالغيبيات. وما أن حل عصر النهضة باستنارته الفكرية وقدرته على التنوير، حتى نشأت من إعادة البعث (Rebirth) ، أو من الميلاد الجديد (Renaissance)- لما هو نفيس من فكر الإغريق ولما هو ثمين أو باهر متألق من فكر الرومان – الحضارة الأوروبية الحديثة التى قامت على عمودين: أحدهما ينهل من نبع الحضارة الإغريقية بلسانها اليونانى، والثانى ينهل من نبع الحضارة الرومانية بلسانها اللاتينى؛ ولقد قدر لهذه الحضارة الأوروبية الحديثة أن تظل مستمرةً وسائدةً حتى عصرنا هذا دون منافسة تذكر.

وفى الختام دعونا نتساءل مثلما تساءل العالم الإنجليزى السير موريس باورا فى كتابه "الأدب اليونانى القديم" : كيف استطاع قدامى الإغريق بناء هذه الحضارة التى نقف أمامها مع العالم كله مشدوهين؟ وكيف تسنى لهم أن يحققوا هذه المعجزة؟ قديماً قال كاهن مصرى قديم لصولون (Solôn)، المشرع الأثينى ورجل الدولة والأديب خالد الذكر مايلى: "أنتم معشر الإغريق لستم إلا أطفالاً بالنسبة لنا! فليست عندكم حكمة واحدة قد وخط الشيب شعرها!"... ويقول الأستاذ باورا : أجل... إن الإغريق هم أطفال العالم، لا بالمعنى الذى قصده الكاهن المصرى القديم، بل لأنهم شعروا بالدهشة مثل الأطفال أمام العالم وإزاء الكون، وعرفوا الحقيقة ببساطة، ولمسوا قلب الأشياء فى صدق، ومضوا بثبات ومباشرة نحو الكل المتجانس، ولم ينخدعوا بالمظاهر. إنهم كما قال عنهم بريكليس (Periklês)، الزعيم الأثينى العظيم فى خطبته الجنائزية المشهورة : "نحن قوم نفكر فى بساطة، ونتذوق الجمال بغير طرواة!"

والسؤال مرة أخرى : "كيف حقق الإغريق هذه المعجزة التى لم تتكرر؟"، والجواب ببساطة : "لأنهم الإغريق".